أعلل النفس بالآمال للطغرائي

توقيع على الزمن
02:03 صباحا
قراءة 3 دقائق

للنفس البشرية حقائق ثابتة لا تتبدل بتبدل الزمان، وقد اهتدت الأمم قديماً إلى تلك الحقائق ووثقتها في أشكال التعبير الثقافي لديها، حتى جاء العصر الحديث فاستطاع البحث العلمي إثبات تلك الحقائق وتأكيدها، والعرب على مر تاريخهم لم تعوزهم الحصافة لمعرفة تلك الحقائق، واختبارها عن طريق تجارب الحياة، ثم توثيقها في ديوانهم الناطق بكل تفاصيل حياتهم، ففي أشعارهم تتجلى تلك المعرفة الدقيقة بأخص خصائص الطبيعة البشرية، وطرائق التعامل مع مختلف المواقف،

اشتهر منذ العصر الجاهلي شعراء حكماء كثر، كما اشتهرت قصائد تخصصت في الحكمة وطبيعة الإنسان، ومن أهم تلك القصائد قصيدة لامية العجم للوزير مؤيّد الدين، أبي إسماعيل الحسين بن علي بن محمد بن عبد الصمد الأصبهاني المعروف بالطغرائي المتوفى 515ه .

عاش الطغرائي انقلابات جذرية في حياته، فذاق دعة الحياة كما ذاق كدرها، وخبر سلوك الناس في التقرب من المرء حين يكون قوياً ذا مال وجاه، والتهرب منه حين يفقد الجاه والمنصب، وقد أرشدته تلك التجارب إلى حكم دوّنها في لاميته التي من أصبحت من غزارة حكمتها تقارن بلامية الشنفرى المسماة لامية العرب .

في قصيدة الطغرائي المتدفقة القريبة المأخذ نقرأ عن أهمية الاعتداد بالإرادة وأخذ زمام المبادرة والثقة بالنفس وبالقدرات الذاتية، وعدم التعويل على الغير ولا انتظار أن ينزل للإنسان حظ من السماء، والصبر على ما أصابته الأيام به، نقرأ ذلك كأننا نطالع كتاباً حديثاً من كتب التنمية البشرية مع فارق سلاسة التعبير وحسن السبك وجمال التصوير ولذة الإيقاع، مما يجعله يجمع بين متعة القراءة وفائدة التعرف إلى النفس، وهاتان الخاصيتان هما اللتان ضمنتا له بقاء قصيدته وتحول معظم أبياتها إلى حكم تتداول على ألسنة الناس .

أصالةُ الرأي صانتني عن الخطلِ

وحليةُ الفضلِ زانتني لدى العَطَلِ

مجدي أخيراً ومجدي أولاً شَرعٌ

والشمسُ رَأدَ الضحى كالشمس في الطفلِ

فيم الإقامةُ بالزوراءِ لا سَكنِي

فيها ولا ناقتي فيها ولا جملي

ناءٍ عن الأهلِ صِفر الكف مُنفردٌ

كالسيفِ عُري مَتناه عن الخللِ

فلا صديقَ إليه مشتكى حَزَني

ولا أنيسَ إليه مُنتهى جذلي ( . . .)

حب السلامة يثني همّ صاحبه

عن المعالي ويغري المرء بالكسلِ

فإن جنحت إليه فاتخذ نفقاً

في الأرض أو سلّماً في الجو فاعتزلِ

ودع غمار العلا للمقدمين على

ركوبها واقتنع منهن بالبللِ

رضا الذليل بخفض العيش يخفضه

والعزّ تحت رسيم الأينق الذللِ

إنّ العلا حدّثتني وهي صادقة

فيما تحدّث أن العزّ في النقَلِ

لو أنّ في شرف المأوى بلوغ منى

لم تبرح الشمس يوماً دارة الحملِ

أهبتُ بالحظّ لو ناديتُ مستمعاً

والحظّ عنيَ بالجهّال في شغلِ

لعلّه إن بدا فضلي ونقصهمُ

لعينه نام عنهم أو تنبّه لي

أعلّل النفس بالآمال أرقبها

ما أضيق العيش لولا فسحة الأملِ

لم أرتضِ العيش والأيّام مقبلة

فكيف أرضى وقد ولّت على عجلِ

غالي بنفسيَ عرفاني بقيمتها

فصنتها عن رخيص القدر مبتذلِ

وعادة النصل أن يُزهى بجوهره

وليس يعمل إلا في يديْ بطلِ

ما كنت أوثر أن يمتد بي زمني

حتى أرى دولة الأوغاد والسفلِ

تقدّمتني أناس كان شوطهمُ

وراء خطويَ إذ أمشي على مهلِ

هذا جزاء امرئ أقرانه درجوا

من قبله فتمنّى فسحة الأجلِ

وإن علانيَ من دوني فلا عجب

لي أسوة بانحطاط الشمس عن زحلِ

فاصبر لها غير محتال ولا ضجرٍ

في حادث الدهر ما يغني عن الحيلِ

أعدى عدوك أدنى من وثقتَ به

فحاذر الناس واصحبهم على دخَلِ

وإنما رجل الدنيا وواحدها

من لا يعوّل في الدنيا على رجلِ

وحسن ظنّك بالأيام مَعْجَزَة

فظُنّ شراً وكن منها على وجلِ

غاض الوفاء وفاض الغدر وانفرجت

مسافة الخُلف بين القول والعملِ

وشان صدقك عند الناس كِذْبهمُ

وهل يطابَق معوجّ بمعتدلِ

إن كان يَنْجَع شيء في ثباتهمُ

على العهود فسبق السيف للعذلِ

مُلك القناعة لا يخشى عليه ولا

يحتاج فيه إلى الأنصار والخَوَلِ

ترجو البقاء بدار لا ثبات لها

فهل سمعت بظل غير منتقلِ

ويا خبيراً على الأسرار مطّلعاً

اصمت ففي الصمت منجاة من الزللِ

قد رشحوك لأمر لو فطنت له

فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهَمَلِ

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"